كثيرا ما تفلت مسألة المغرب من هؤلاء الذين يسكنون فيه. فجذور الإنسان الطوبوغرافية لا تمنح كأعطية بالولادة للذين يقيمون في الأرض التي ولدوا فيها. أسير على هذه الأرض، وتضيء نظري شمس هذه البلاد، وأحيي وأنا سائر وجوه البشر، لكن ماذا تعني هذه الفقرة في مطلع هذا النص؟
لهذا ننفصل رأسا عن معنى ” التراث” الشائع. صحيح أن التراث هو، بالنسبة إلى الفكر، راحة الموتى، أرضيين وعليين. وتنبع هذه الراحة من الأرض، من ماضي الأرض، في قلب الذاكرة. تؤسس هذه الدعوة في ذاتها ملجأ التراث. فالتراث (الذاكرة، الأرض، اللغة) لا يضيء الانسان إلا بمقدار ما يستحق موته، بين الموتى.
لهذا ننفصل رأسا عن معنى (التراث) الشائع. صحيح أن التراث هو عودة المنسي. ولابد لهذه العودة من أن نستوقفها ونطرح عليها الأسئلة لكي تدلنا على طريق الموتى الذين يتكلمون، الذين يتحدثون معنا. بماذا ينطق التراث – كل تراث؟ إنه ينطق بإقامة الإلهي في قلوب البشر وعقولهم، وقد احتضنت الميتافيزيقا هذه الإقامة منذ نشأة الفكر. فالميتافيزيقا هي، بمعنى ما، ماء التراث الروحية. إن أداة التصدير (ميتا) (فيما وراء) تجمع بين مصير البشر ومصير الآلهة، بين الأرض والسماء من أجل عودة الموتى الذين يتكلمون. غير أن كلام الموتى، في هذه العودة، شديد البأس دائما على فكرنا: فلسنا إطلاقا متأهبين كما ينبغي لكي نجابه هولهم.
في الاختلاف الوحش:
أطلق فانون قبيل موته هذا النداء: “هيا، أيها الرفاق، لقد انتهت اللعبة الأوروبية، والبد من البحث عن شيء آخر ” . التخلي عن أوروبا والابتعاد عنها إلى الأبد؟ أليس هذا وهما، مادامت أوروبا تقيم في كياننا؟ زد على ذلك أن الكائن المغربي هو، في مشكلته القصوى، كما نعتقد، غرب صعب المعالجة أكثر من أي وقت مضى- حتى الموت.
إذا كان الغرب فينا، لا كشيء خارجي مطلق، بل كاختلاف نقارنه بدقة مع اختلاف آخر يدعونا هو نفسه إلى التفكير فيه كما هو في رهان الفروقات (فروقات الوجود)، إذا لم يعد الغرب إذن وهم تبلبلنا الخاص، فإن كل شيء يبقى آنذاك للتأمل ، حتى الموت.
لنسم “الاختلاف لوحشي” بالانفصال الزائف الذي يقذف بالآخر في خارج المطلق. الاختلاف الوحشي يؤدي بشكل حتمي إلى ضلال الهويات المجنونة: الثقافوية، التاريخوية، القوموية، التزمتية الوطنية، العرقية… كانت هذه الدعوة إلى الاختلاف الوحشي (الوحشي والساذج) السخط الذي نتأمله، في مرحلة زوال الاستثمار، ويظل نقدها الغرب أسير العداوة وأسير هيغلية منحطة. وما نزال نتساءل: ما الغرب المعني؟ ما الغرب الذي نعارضه بنا، فينا نحن؟ ومن نحن؟
في الهامش
إن فكر “النحن ” الذي نتجه إليه لم يعد يتموضع أو يبدل موضعه في الميتافيزيقا، بل على هامشها. وهو هامش يقظ. “نحن” ، هذا التفريق غير المقبول، غير المدروس، فيما وراء الآخرية الطغيانية والهويات العمياء. أن فكر هذا “النحن” هو هذا التقييد التاريخي الذي ينسج الكائن- والذي ينسجه الكائن – على هامش الميتافيزيقا. لا نقدر أن نستحق موتنا بغير أن نقلق الميتافيزيقا. هذا الإقلاق هو الذي يرجرج علاقتنا بالتراث.
ليس حديثا تراثيا لأنه يمجد التراث، لكنه ليس منفصلا عن الوقت الراهن بشكل يكفي لكي نفهم قليلا جدا تراجع العرب (التاريخي) وانحدارهم كحضارة شاملة. لقد سقطت هذه الحضارة الشاملة، بشكل ساطع، بدءا من القرن الرابع عشر. ماذا حدث؟ لابد من استئناف الحوار مع سر هذا التراجع وهذا الانحدار نحو الغرب. كيف نضطلع بهذا التراجع وندرسه، بشكل دقيق؟ ما شأن هذا التراجع في اقلاق الميتافيزيقا؟
في السيادة
الغرب، من جهة، سائر (منذ عصور) نحو هيمنة شاملة. وقد أسس هيغل هذا السر في مملكة المعرفة المطلقة. يمكن القول إن فكر هيغل يعبر عن نظره الثاقب كنسر أسطوري.
تعني هذه الاستعارة، مثلا، أن مسألة السيادة (الاستعمار، الامبريالة، السيطرة…) مطروحة انطلاقا من النظر الهيغلي الذي ما تزال الماركسية مأسورة فيه. تحرير العبيد، ذلك هو، في الواقع، شعار الماركسية. إلا أن الغرب كما هو، يجسد مصيرا ميتافيزيقيا وتاريخيا ينمو وفقا لإرادة قوة جديدة: تعميم التقنية عالميا، وهي إرادة قوة لا غائية لها: لعل الانسان قد وصل إلى هذه الأرض متأخرا جدا، دائما، وهكذا استبعدته سيادة لا سيد لها، وضاع في التيه إلى الأبد. هل الانسان إذن خطأ في المسير؟
نحن أيضا نصل متأخرين جدا إلى عصر التقنية. كيف نقدر أن نأخذ نظامها دون أن نرغب بدورنا في أخذ نصيبنا من مملكة العالم؟ نريد أن نحرر مجتمعاتنا التي يهيمن عليها اللاهوت والتقنية، لكننا لا نحس كفاية أن فكر الاختلاف الوحشي هو وحده الذي يقدر أن يحافظ على حداد الميتافيزيقا (التقنية)، ويبدأ بتدمير المعرفة المطلقة. نحو هذا الحداد ينحدر مع ذلك الغرب، بطريقته الخاصة. إن أصلية الكائن توجهنا نحو جدارة الموت. أننا نسأل عشاق السيادة، الأقوياء العضلات: كيف يحب الانسان موته الخاص؟ أي تراجعه- كأثر تاريخي؟ من أجل أن يحتضن الموت في الاختلاف الذي تصعب معالجته.
في التراجع
قبل أن نتابع هذا الحديث، نريد أن نعبر عن قلقنا حول منحى كلامك. لأية ميتافيزيقا تشير بمثل هذه الطريقة الحماسية؟ هل تتكلم (إذا قبلنا أنك تتكلم) انطلاقا من تراثك؟ انطلاقا من الفلسفة اليونانية؟ الألمانية؟ نتساءل في الوقت نفسه إذا لم تكن هذه المسألة الأولى نفسها مغطاة بمسألة اللغة التي تكتب بها؟
لا شيء من هذا كله، حتى تراثي نفسه، أعطي لي كما لو أنه نعمة، ألا أذا كانت النعمة هي تلك الرعشة المغيرة، رعشة الإلهي والموتى. لكن، لا نبتعد عن اعتراضكم الأول، الذي أتبناه، إن كنا نسعى إلى الشيء ذاته. على أية ميتافيزيقا نتكلم؟ المسألة تتصل بمجابهة غريبة: المجابهة بين الميتافيزيقا الغربية (اليونانية في جوهرها) والميتافيزيقا الاسلامية، كمفكرين جذريين في الكائن. لنستعد كلامنا السابق على التراث. التراث يعبر عن عودة الموتى الذي يتكلمون. من نبع هذا الكلام، ينبجس الكشف عن لغة أعلن أنه لا تمكن محاكاتها (الاعجاز): اللغة العربية. إن اللغة العربية، كمكان ميتافيزيقي بامتياز، تجمع- في فكر المؤمن- بين الأرض والسماء…
وتفتح أبوابه الجنة…
لكن المتصوف يفتح عروقه.
إن وعي المطلق في هذه اللغة التي لا تحاكى يرويه مجيء خارق: القرآن.
نعم، القرآن كصورة للإلهي…
تحجب وجه الله…
الطريق التي يبدو أنكم تسلكونها يونانية، جذريا: فكر الالهي كحضور للكائن، كحدث… أما قيل وأعيد القول أن الفلسفة العربية يونانية في جوهرها.
نعم، وفقا لاتجاه معين. أقول، مثلا، أن إله أرسطو، داخل في الاسلام، قبل مجيء الاسلام.
هذه إشارة تفسر لماذا ابتكر العرب لاهوت أرسطو المشهور، من أجل أن يلغوا، بمعنى ما، الوثنية اليونانية، وينتزعوا من هذا الشعب اختلافه الذي يصعب على الوحدانية أن تعالجه.
كان لهؤلاء العرب موهبة ابتكار حكايات جميلة.
هل يكون اللاهوت حكاية جميلة؟ قصة من أجل أبناء ضالين؟
إن الإشارة بذاتها إلى (لاهوت أرسطوا، الخيالي) هي، حكاية ذات دلالة. لكن لاحظوا أن الموقف التالي هو الذي يبدوا خارقا ومفرطا على السواء: الاسلام الذي هو ميتافيزيقا الإله المحجوب (الاسلام يحجب أيضا وجه النساء، باعتبار الحوريات لا تمكن رؤيتهن في الدنيا إلا في الجنة الصوفية). الاسلام، في مواجهة اليونان، فقد النظر. وما زلنا نرتجف من هذا الفقدان، ونحاول أن ننظر. من؟ أي شيء؟ إن عنى الهوية يبلبل خطواتنا. لكن لعلنا نستمد من هذا العمى الذي جو نصيبنا، قوتنا من أجل العودة إلى ضياء الفكر. لهذا يتوجب علينا أن نحب تراجع العرب التاريخي ونقترب منه. علينا، باختصار، أن نتوجه نحو ليلهم.
تتحدث أحيانا عن العرب قائلا (هم). هل أنت جزء من كوكب آخر؟ أم أنك اصطنعت، على غرار المستشرقين، نوعا آخر من العرب اللامرئيين، الضائعين إلى الأبد في عودة الموتى؟
وعد للذات: أن تكون بلا حد عربية عن إفراط…
أو نقص.
نعم.
هل قلت من هنيهة أن العرب آخذون في تغيير وجههم؟
بمقدار ما يقوم وجه التفكير، المتراجع، في ملاحظة الآخر المبتعد في ذاته: فكر الكائن والصحراء، الهيام الصوفي والخنثوية. هذه القضايا (المكبوتة اليوم) في الفكر العربي التقليدي يجب أن نحتضنها في نقدنا المزدوج.
لكن هذه العودة إلى الذات يطالب بها التراثيون من كل جانب.
لقد فقدت التراثوية معنى التراث. فالدعوة السلفية لتفسير الأصالة تكشف عن عقيدة إصلاحية تدعو للارتياب. هذا الهدف العقائدي يقوم على تحويل العرب إلى شعب من اللاهوتيين السياسيين.
في بلدان يغلب عليها الفقر والإدلال، تقومون بدعوة الأشباح. مع من تتحاورون؟
ندافع عن النقد المزدوج، وعن الاختلاف الذي تصعب معالجته، والذي سنتحدث عنه، إن شئتم، بعد قليل.
ثلاثة تحولات
هكذا ترتسم مراكش، كأفق للتفكير، وفق ثلاثة تحولات، لثلاثة خطوط كبرى:
التراثوية. نسمي الميتافيزيقا التي تحولت إلى لاهوت تراثوية. ويشير اللاهوت هنا إلى فكر الواحد الأحد، الموجود كوجود أول، كعلة أولى.
السلفية. نسمي الميتافيزيقا التي تحولت إلى مذهب سلفية. ويشير المذهب هنا إلى أخلاق سلوك سياسي، إلى تربية اجتماعية.
العقلانية (السياسية، الثقافوية، التاريخانية، الاجتماعية،…)نسمي الميتافيزيقا التي تحولت إلى تقنية، عقلانية. وتشير العقلانية هنا إلى تنظيم العالم بإرادة قوة جديدة تقوم على الوضعية العلمية.
الميتافيزيقا التي تحولت إلى لاهوت ومذهب وتقنية: تمكن مقاربة هذه التحولات الثلاثة بالتاريخ وبعلم الاجتماع. هكذا نرى التمييز عند إيديولوجي مراكشي (عبد الله العروي) بين الشيخ والليبيرالي والتقني. مثل هذا التمييز مفيد بلا ريب في التحليل النفسي- الايديولوجي، لكنه لا يلامس قضية العالم العربي إلا من بعيد. لماذا؟ إن التمييز الذي أشرنا إليه هو، في منطقه الخاص، تمييز ناقض: أين مكان التراثوي اللامذهبي، والتراثوي اللاهوتي بالفعل؟ ثم إن ما نستخدمه على الأخص اليوم ومنذ أمد، ليس مجرد صورة اختبارية من “ايديولوجية عربية ما” نصفها بأنها معاصرة، وإنما هو بالأحرى المصير التاريخي للعرب، وتراجعهم وانحدارهم منذ فجر الاسلام. التاريخي ليس التأريخي، والإيديولوجي مؤسس في الميتافيزيقا، والمعاصر متجه نحو عودة الواحد أو الشيء ذاته: إن مسألة العرب ما يزال يحجبها ايديولوجيونا الذين تشغلهم كثيرا المشكلات السياسية الراهنة.
إن الميتافيزيقا (الالهيات) حاضرة كتفكير في الوجود والموجود، كتفكير في الجوهر، في الواحد والكثير، منذ بداية الفلسفة في الاسلام (الكندي). هذه الفلسفة – على غرار اليونان – “تعزل”، بمعنى ما، اللاهوت النظري لعلم الكلام الذي كانت مسألته الأساسية تدور حول حدوث الكلام الالهي أو قدمه. إن انحسار هذه الفلسفة (منذ القرن الثالث عشر) أمر لم يدرس: كيف نحيط بمسألته، هنا والآن؟
كانت الفلسفة العربية تعرف على طريقتها ما نتعلمه الآن في الغرب. لقد نسينا ألف-باء مسألة الموجود والوجود، الهوية والاختلاف، ونتابع الثرثرة بلا حياء حول استعادة الهوية وحول الولادة العربية الثانية. ولادة ثانية لأي شيء؟ الولادة من جديد في الفكر هي المصير المأثور للأشباح، للموتى الذين يكلموننا. نحن تراثويون بنسيان التراث، مذهبيون بنسيان فكر الكائن، وتقنيون بالعبودية. من دجننا هكذا لكي يصبح مثل هذا النسيان شأنا يتكرر جيلا بعد جيل؟
غير أن النسيان ليس العدم، وليس هروب الزمن، وإنما تمسك به قوة أخلاقية فعالة وطاقة لاهوتية ضارية. التراثوية هي هذه الفعالية، هذا الجهد المستبسل للعقاب والإكراه. لم نقل ما يكفي عن ان الحلم العميق للتراثوي هو أن يأخذ مكان الله، أبديا وثابتا. وليس مدهشا أن ينتهي بنفي نفسه في سماء النظر الصافية.
في التاريخ
كل مجتمع يعيد كتابة المكان الذي يتأصل فيه ثانية، فيما يعيد كتابة تاريخه، وبهذه الحركة يسقط عن الماضي ما يفلت منه في الحاضر. بلى، إن التاريخ هو مسكن الانسان ومنبت هويته المتعددة. لكن نحو أي مكان تاريخي يتجه؟
” لنمارس التاريخوية المعممة”: ذلك هو شعار عبدالله العروي. لاشك أن هذا التاريخوي يمتلك جدارة الإرادة لإعادة التفكير في “الوعي التاريخي”، بالنسبة إلى الإيديولوجية العربية، وبخاصة المغربية. أنه يلح على معنى الاستمرارية التاريخية، وعلى أهمية المراحل ذات الأمد الطويل، من أجل أن يرد الوضع الاستعماري و”تخلفنا الثقافي” (هذه عبارة له) إلى مجال تاريخي كلي. إذن، من أجل أن يدخل في عمل المؤرخين العرب ترتيبا نظريا آخر، ورؤيا أخرى لأنفسنا، يفضح العروي “استلاب المواطن” بالبحث الذي نشأ في المرحلة الاستعمارية، أو بالتراثوية التي تثبت تاريخ العرب في ماض حنيني. هذه الجهود كلها ضرورية ومفيدة. لكن المسألة التاريخية (مسألة الذروة والتراجع، مسألة نمو الكائن في مصير الشعوب والعالم) قلصت في تاريخانية معممة، لا تهدد إلا مأزقه النظري الخاص. لم هذا؟ إن العروي يرد التاريخ إلى شمولية ميتافيزيقية، تسيجها الاستمرارية والعقلانية والميل إلى النظام والارادة، كما لو أن “عامل التاريخ” عقل مطلق، قادر أن يسيطر على المصير. من جهة أخرى، يتيح العروي، من حيث أنه يريد تغيير التاريخ، أساسيا، بقانون الاستمرارية، – يتيح للحركة الأخرى أن تتسرب بين الأصابع، حركة لا تعوض في عنف الكائن (التاريخي.
هذا المأزق النظري، المأسور في الميتافيزيقا، هو الذي جعله قريبا من الماركسية. غير أن الماركسية، في أحد أشكالها الأكثر صرامة ترفض:
التاريخانية المتعالية (تاريخانية المجتمع الإقطاعي) التي تحددها المطلقات (الله، النبوة، القدر…
تاريخانية الفكر الليبرالي (القرن الثامن عشر الأوروبي) التي أوجدت بدائل تحل محل مطلقات التعالي، وهي بدائل معلمنة: العقل، الفرد، الحرية،… فلقد حدث تغيير ايديولوجي، لكن التربة الميتافيزيقية بقيت هي إياها.
لسنا ملزمين باتباع المسيرة ذاتها، بأن نجتاز من جديد المراحل التي اجتازها الغرب. يجب أن ننطلق رأسا، من الموجود، من القائم هنا كمسألة. إن آلتوسير، مثلا، يدعي التاريخ، وصراع الطبقات كقضية بلا باعث ولا غائية. لقد غير موقف الماركسية النظري، دفعة واحدة، في تجاوزه هذين النوعين من التاريخانية، اللذين ذكرناهما. والواقع أن عمل العروي يبقى معلقا بينهما.
ما يلزمنا هو أن نتجاوز من الجوانب جميعا الصورة الضيقة التي نملكها عن أنفسنا وعن الآخرين، وأن ندخل في المعرفة فسحة ذات محاور استراتيجية متعددة، وأن نفرغ الكتابة التاريخية من المطلقات (اللاهونية، المركزية اللاهوتية…) التي تفيد الزمان والمكان، وتقيد جسم الشعب.
أن نخلخل بنقد يقظ، نظام المعرفة السائد (من حيث أتى) هو أن ندخل النظرية في الصراع الاجتماعي والسياسي، غير أن لهذا الصراع الحاضر لا حاليته المنسية التي يجب السير نحوها في عنف الكائن التأريخي، في عالم تقبض عليه أكثر فأكثر إرادة قوة لا تقاوم.
إن ما يهدم تاريخانية العروي هذه هو أمانتها للهوية الوحشية، أي “لمسألة” ساذجة من مسائل الوجود. ومن هنا يخلط العروي بين “الآخر” و”الغير”، و”الآخرين”، بين الأنثروبولوجية الثقافية، وفكر الاختلاف، بين التاريخي والتأريخي. زد على ذلك أن آراءه المختلفة حول الوجود العربي تسقط من تلقائها: فلسنا بحاجة إلى الالحاح بهشاشتها. يكتب، مثلا: “منذ ثلاث أرباع القرن، يطرح العرب على أنفسهم سؤالا وحيدا واحدا: من الآخر، ومن أنا؟” (الايديولوجية العربية، ص15) كما لو أن هذا السؤال ليس السؤال الجوهري لفكر الوجود، باستمرار. فبأية سذاجة ينسى العروي مسألة الوجود والموجود، المؤتلف والمختلف، كما طرحت في الفلسفة اليونانية والفلسفة العربية. إن ايديولوجية العروي منهارة من أساسها.
في الشعب
من المعروف أن مراكش لم تعد، بالمعنى الحقيقي، من فكر فلسفي (عظيم)، علمي أو أدبي. أن ابن خلدون ليس للمراكشيين وحدهم: فقد كانت رسالته عربية.
شاركت مراكش، بشكل هامشي، في تكوين الثقافة العلمية، مع أنها كانت مندمجة في الانتماء المزدوج الأندلسي – المغربي ولم تطور مراكش، بلد الفلاحين والمحاربين وبناة الممالك الكبار، ثقافة تاريخية، يفسر الباحثون هذه المسألة بغياب دولة منظمة بيروقراطيا بشكل قوي. لكن، إذا كانت استمرارية الشعب في لغته (لغاته) فكيف نفهم تاريخ مراكش؟
ما نزال نعجب، مثلا، من أن البربر (المراكشيين دوي الأصول القديمة) رفضوا بعناد أن يتبنوا أبجدية وكتابة “التيفيناغ” اصطلاح بسيط لوضع العلامات يستخدم لمهمات يومية أولية. قد يفسر هذا الرفض للكتابة، من بعض النواحي، وبالتاريخ وبعلم الاجتماع: تنظيم القبيلة المجزأ، لا مركزية السلطة المهيمنة، غياب البيروقراطية القوية، عنف الغزوات الاستعمارية التي حالت دون وحدة البلاد.
بلى، جميع هذه القضايا مفيدة، بالنسبة إلى قراءة موضوعية لمراكش. غير أن المسألة البعيدة لا تزال محجوبة: مراكش القديمة التي لا أبجدية لها، تدخل في جسم الشعب، في جوف الطغيان التاريخي. هو دخول مجيد أحيانا: في الأدب العربي (الدنيوي والروحي)، في الوشم والزخرفة، في بهاء الغناء والرقص. ذلك مشهد يكشف عن ديونيزية مراكشية تنحدر دفعتها النشوى نحو المحيط.
مراكش البديعة هذه آخذة في الزوال، تغطي اللامبالاة ذاكرتها. إننا، بمعنى ما، نتابع التهديم الطي بدأه الاستعمار وعلم الأجناس. وليكن قولنا مفهوما: نحن لا ندعو إلى الحنين الساذج للأصل القديم، وإنما ندعو إلى مراكش مراكش جذرية تخلصت من القانون اللاهوتي ومن سلطة العلموية.
إن على مراكش كأفق للتفكير وكينبوع للفن ان تكون في مستوى جذرية الوجود هذه، أي أن عليها أن تتجه نحو الزمن الجمع لمراكش لا تنسى، والتي لا يمكن أن يحاصرها قانون البشر ولا السور الميتافيزيقي.
في الهوية العمياء
التراثوية ليست التراث، إنها نسيانه، وهي، كنسيان، تجعل المذهب بديلا عن المسألة الوجودية: أولية كائن ثابت وأبدي. وتريد التراثوية أن تحافظ على هذه الثبوتية وهذه الأبدية، وتثبتهما إلى الأبد في شريعة البشر وفي امتلاك الأشياء.
غير أن الإرادة المذهبية لا تقدر أن تتجلى إلا في حقل “واقع” خائب في ذاته، ملائم للوعي البائس. وتريد السلفية أن تتجاوز هذا المأزق. إن إرادتها عقدية: إصلاح انحطاط العالم وفساده. (راجع نصوص علال الفاسي العقدية).
لا تقدر التراثوية ولا السلفية أن تكونا في علو مراكش، كأفق للفكر والفن. ما السبب؟ لأنهما، بضياعهما في العالم المعاصر، لم تعودا قادرتين على الانقلاب ضد سلطانهما الديني واللاهوتي المركزي، ولا ان تقوما بقفزة نظرية، أي أن تتحاورا مع الخارج (الشر) الذي يفسدهما ويدمرهما من الداخل.
تريد العقيدة السلفية أن تؤالف التقنية مع اللاهوت، معتقدة أنها تحقق بهذه المؤالفة المصطنعة اقتصادا مزدوجا:
اقتصادا وسيليا: تصبح التقنية، بحسبه، أداة قابلة للاندماج في مجتمع كالمجتمع المراكشي، دون أن تسيء هذه الأداة بشيء إلى البنية الاجتماعية – الاقتصادية التي تسند السلفية.
اقتصادا غائيا: ويفترض فيه أن التقنية مفرغة من القيم التي تؤسسه. تصبح التقنية إذن قابلة لأن تروضها وتوجهها الإرادة السلفية وفقا لأهدافها الخاصة.
إن خللا فكريا كهذا يحدد شكلا من الهوية العمياء سائدا بوجه خاص.
في الاختلاف الذي تصعب معالجته
تتحدث عن التقنية بشكل غامض. يبدوا أنك تعتبرها أحيانا لعنة شيطانية.
ليست التقنية الشر في ذاته، ولا الخير في ذاته. إنها المصير الكوني للعلم. وانتشارها لا يقاومه أي مجتمع: فهل يمكن إيقاف مصير العالم؟ حيث يقيم الانسان، تكون التقنية مقيمة كأرض ثانية.
وهذا يعني أنها في كل مكان، أيا كان المجتمع.
نعم، لنأخذ مراكش، مثلا. إننا نستورد الأشياء ونستورد ما يسمى نماذج التطور. لهذه النماذج فعالية وقابلية على التكيف عظيمة، قليلا أو كثيرا.
قد تفيد في القضاء على الفقر. يمكن تحقيق مستوى ما من النمو الاقتصادي بحسب المخططات الدقيقة قليلا أو كثيرا…
الدقيقة بقدر ما يكون جسم الانسان نفسه ذخيرة عمل يمكن حسابها: نوعية حياته، ونتاجه، وموته.
كيف تصبح هذه الآلات وهذه النماذج المستوردة؟
تخلق صورة، أو تصورا مزدوجا عن نظامها. هكذا تنتج تكنوقراطيات محلية للسهر على إدارتها. إن فعل التراكم هذا هو، بذاته، غير محدود. فنحن لا نرى نهايته. إننا نستورد مع هذه الآلات وهذه النماذج نوعا من العلاقة بين الانسان ونفسه، والانسان والطبيعة، ونوعا من العلاقة بين الانسان وأشباهه، الانسان والوجود…
هل يمكن استيراد مثل هذه العلاقة الوجودية؟
كنا في صدد الكلام على صورة التقنية.
ماذا تقصد؟
حسنا لنتكلم بشرعة على مسألة هيدغر الكبرى عن التقنية، من حيث أنها “ميتافيزيقا مكتملة”. حيث يمر الغرب، يرسم على طريقه، فكر هيدغر. حيث يظهر الشرق، يقابل في طريقه وجه هيدغر. هذا الوجه هو وجه فكر الوجود، فكر الاختلاف. بين اليونان وفكر هيدغر، بين الشرق والغرب، انبثق شعاع من الضوء لا ينسى. ليس مارتن هيدغر، في القرن العشرين، فيلسوفا بين آخرين. إنه ذلك الذي يسهر على حداد الفكر الغربي. ومن هنا كانت مسألة التقنية تقلقه وتعذبه.
هذا العذاب بأي شيء هو عذابنا؟
كنا نقول إذن، متابعة لمنظومة هيدغر الجنائزية، إن التقنية، “كميتافيزيقا مكتملة”، وكقوة إرادة هي أساس إنذار كوني يدعو البشر – أكثر من أي وقت مضى – إلى سماع الكائن.
ومع ذلك، ألح هيدغر كثيرا على تدمير العالم، ومصير الانسان الذي تحول إلى دابة.
الدلائل التي تؤيد عذابه قائمة. انظروا حولكم. انظروا في داخلكم، الشعر نفسه يعتبر اليوم حساب كلمات، واستراتيجية نصية. لنترك الكلام اليوم على “الآلات المتشهية”. غير أن فكر هيدغر هو أيضا ثاقب كضوء البلور. تعني هذه الاستعارة، مثلا، إن التقنية ليست الشر (برهان انسانوي ضعيف جدا)، وإنما هي مسألة عن معنى الكائن.
صحيح، إذا قبلنا هذه الآراء. لكن، لنعد إلى ما يربطنا بجوهر التقنية. فالتقنية، على كل حال، من أصل غربي. إنها بالنسبة إلينا، إرادة قوة مهيمنة واستعمارية. إنها، بمعنى ما، خاتمة المعرفة المطلقة. هل نقدر أن نحول لصالحنا إرادة القوة الخارقة هذه؟
لصالحنا؟ نحن؟ من نحن؟ نحن في جوهر التقنية؟ ليس الشرق حركة بسيطة (جدلية، تأملية، ثقافية…) نحو الغرب. إن أحدهما هو بالنسبة للآخر البداية والنهاية. ولهذا فإن كتابة هيغل عن الشمسين (الشرق كشمس خارجية والغرب كشمس داخلية في الفكر الكوني) إنما هي أسيرة الحقل الميتافيزيقي.
ماذا يعني هذا التشبيه في حديثنا عن التقنية وصورتها، إن كنت ماتزال تتذكر عقدة حوارنا؟
جوهر التقنية فرد واحد. وهو، من حيث أنه أوحد فرد، كوني، أيا كانت طريقة انتشاره. وللأوحد تأثيراته الصورية، والانكفائية، والإخفائية، والاختلافية. نسمي هذا المشهد كله صورة التقنية أو ظلها.
يعني؟
جوهر التقنية مزدوج بالنسبة إلى التربة الميتافيزيقية في الاسلام ولغته. قلنا سابقا إله أرسطو دخل في الاسلام قبل ظهوره. كذلك يمهد “الأورغانون” لمصير التقنية الكوني. لهذا يجب أن نركز انتباهنا على المواجهة بين هذين النوعين من الميتافيزيقا، الذي يمحو أحدهما الآخر. إننا مأسورون في هذا الفرق، في مبادرة جديدة.
أهذا هو ما تسميه “الاختلاف الذي تصعب معالجته”؟
نعم. وهناك فروقات أخرى، انقطاعات أخرى تثير العنف لدى جميع الأطراف. الهوية العمياء، والاختلاف الوحشي من الأدلة البارزة. الاختلاف الذي تصعب معالجته هو كف يد الميتافيزيقا بنقد مزدوج، بكفاح مزدوج، بموت مزدوج.
بنقد مزدوج؟
نقد هذين النوعين من الميتافيزيقا، ونقد المواجهة بينهما. الوقع أن هناك خيارا، خيارا وحيدا ممكنا: التأمل في مراكش كما هي، كموقع طوبوغرافي بين الشرق والغرب. ما تزال مراكش، كأفق للفكر، تتعذر على التسمية. ينبغي، من جهة، أن نصغي إليها ترن في لغتا (لغاتها) الخاصة، ومن جهة ثانية، وحده الخارج الذي أعيد فيه التأمل، وأزيح عن مركزه، وخرب، وحول عن تحديداته المهيمنة، هو الذي يمكن أن يبعدنا عن الهوية العمياء والاختلاف الوحشي. وحده الخارج الذي أعيد النظر فيه، يقدر، أن يمزق حنينا إلى الأب، ويقتلعه من التربة الميتافيزيقية. أو على الأقل يوجهه نحو مثل هذا الاقتلاع. نحو فكر سيد، يتيم في غاية اليتم. ذلك هو المنحدر الآخر من الاختلاف الذي تصعب معالجته، وتلك علاقتنا بفكر اختلاف كهذا.
ماذا يعني إذاك “الموت المزدوج”؟
أفصح عن ذلك هراقليطس الإلاهي بمقتضى صوته الغامض: “خالدون فانون، فانون خالدون، يحيون بموت أولئك، ويموتون بحياة هؤلاء”. إن جدارة الانسان هي أن يستحق موته، بين الموتى، فهل تفهمونني؟
snort It s been a long time since I ve been here, such a newcomer with a temper, who will teach him a lesson The woman in black looked at the people around her.Next, Lin Xuan let Fire Dragon Girl leave, and he stayed in this world alone.
When he came to the depths of the mountains, he opened an ancient mansion.So if you really want to kill an emperor, you need careful arrangements, Even, a lot of power needs to be dispatched.
Moreover, these people also have something to transmit signals, which is a small bell, but it can only When is weight loss noticeable
transmit the message for the third time, and CBD Blue Gummies for ED: Benefits, Reviews, and Guide
it needs to be sacrificed again.Now that Lin Xuan has obtained so many treasures, such as genius treasures, it is still possible to activate the Black Soil and seal them.
All of a sudden, these people s scalps became numb, and their expressions were incomparably dignified.Because he saw a terrible scene. In the depths of his mind in front of him, there is a dragon shaped sword shadow, exuding an aura that frightens him.
However, there was a figure sitting cross legged on such a terrifying monster.They all looked down with a sneer on their faces. I just said that this kid is not a good thing at all.
It is said that the god crystal has mysterious power in it, which is extremely mysterious.Because she is powerful, and the other party is just a six star king.
Because up to their stage, they are all six star kings, and their combat power is all powerful.